يقول العلامة أبو عبدالله محمد بن الطيب الفاسي (ت 1170 هـ) في رحلته إلى الحج، وهو يؤدي مناسكه بشوق ومحبة زائدة:

... وكلما جددت النظر في محاسن البيت الشريف، كدت أن أغيب عن الوجود..

وكلما نظرت يمينًا وشمالا، وهبَّت عليَّ من نفحات البيت صبًّا وشمالا، أنشدتُ وقد مِلتُ من الوجدِ ممالا:

هذي أباطحُ مكةَ حولي وما جمعَتْ مشاعرُها من الحُرماتِ أدعو بها لبيكَ تلبيةَ امرئٍ يرجو الخلاصَ بها من الأزماتِ

ثم تجاوزتُ بابَ بني شيبة، وفي قلبي ما لا أكيفهُ من الهيبة، وتيمَّمتُ الحجرَ الأسود، وجنَّبتُ كلَّ أحمرَ وأسود، وكبَّرتُ وقبَّلت، وجعلتُ البيتَ عن يساري وشرعتُ في الطواف وأقبلت، حتى فرغتُ من طواف القدوم، واستشعرت الوجودَ وقد كنتُ من الذهول في حيِّز المعدوم، وربما كنتُ أتمثَّل في المطاف، وقد أُلبِستُ جلابيبَ الألطافِ الدانيةِ القطاف، بقول ابن رشيد البغدادي:

وكم لذةٍ أو فرحةٍ لطوافهِ فللهِ ما أحلى الطوافَ وأهناهُ

وربما أتوجه إلى الله في نيل الأوطار، التي جُبتُ لها الأقطار، وأحمده على أن سكنَ القلبُ في حرمهِ وطالما إليه طار، وألجأُ إليه فيما ارتكبته من الأخطار.

وربما تأملتُ حُسن جمال الكعبة الباهر، فأنشدتها قول من أقبل عليها بالنداء الظاهر:

يا كعبةَ الله كم من عاشقٍ قُتلا شوقًا إليكِ ورامَ الوصلَ ما وصلا يُمسي ويصبح محزونًا ومكتئبًا ويَهجرُ الأهلَ والأوطانَ والطَّلَلا لولاكِ ما سرتِ الركبانُ من طربٍ كلا ولا قطعتْ سهلًا ولا جبلا ولا رأت كلَّ ضيقٍ فيكِ متَّسعًا كلا ولا خفَّ عنها كلُّ ما ثقلا باعوا النفوسَ رخيصًا في هواكِ وما تغلو النفوسُ بوصلٍ منكِ إن حصلا

فيا ما أطيبَ هذه الأوقات المباركة، التي لا تعدلُ بمقاومةٍ ولا مشاركة،

ويا ما ألذَّ ما لقيناهُ عند تقبيل الحجر من الازدحام، والمنهلِ العذب كثير الزحام،

ويا ما أقصر الوقوف وإن طال بالملتزم، ويا ما ألذَّ الورود من ماء زمزم،

ويا ما أحسن التمتع في الحِجْرِ بلا حجر،

ويا ما أكمل الأماني، بالوقوف حول الركن اليماني،

ويا ما أقرب الدعاءَ في تلك الأماكن للإجابة، ويا ما أسعد من أكرمه مولاه فجاء به إلى بيته الحرام ولبَّى دعاءهُ وأجابه.

(باختصار من: الرحلة الحجازية/ لأبي عبدالله محمد بن الطيب الشرقي الفاسي؛ تحقيق نور الدين سويد.- أبو ظبي: دار السويدي، 1435 هـ، ص 377 – 380).