هناك صاحبُ لسانٍ،

وصاحبُ قلم،

وقد لا يكونُ اللسِنُ كاتبًا،

ولا يكونُ الكاتبُ لَسِنًا،

فلا يُحرَجان،

فإنما هي مواهب،

يُعطَى هذا ما لا يُعطَى ذاك.

ويُتابَعُ صاحبُ القلمِ فيما يَكتبُ وكفَى،

فقد بلَّغ،

ولا يُكرَهُ على درسٍ أو محاضرة،

وإذا أُكرِهَ فلا يكونُ ناجحًا فيه،

أو يكونُ عاديًّا،

ولأنه قد لا يُتقنُ الحوار،

أو يكونُ عصبيَّ المزاجِ فيه حدَّة،

فتصدرُ منه كلماتٌ ويَجرحُ بدونِ قصد!

أو يحبُّ العزلةَ ولا يُطيقُ الاجتماعَ بالناس،

فيضيقُ صدرهُ ولا ينطلقُ لسانه!

أو يحسبُ أن وقتَهُ أغلَى من الجلوسِ مع الناس،

فلا يتفاعلُ مع المجالسِ ولا يفيد!

ومثلُ هذا قد يُعذَرُ إذا اعتذرَ عن استقبالِ الناس،

لأنه ليس مهيَّأً لاستقبالهم،

وليس قادرًا على مخالطةِ الناس،

لطبيعةٍ فيه،

وإذا خالطَ تحرَّجَ وأخطأ..

وهناك علماءُ ودعاةٌ تُفرَضُ عليهم العزلة،

ويُبعَدون عن كلِّ عملٍ دعويّ ونشاطٍ علمي،

ويُلاحَظون ويلاحَقون ويخوَّفون،

وبمرورِ الزمنِ تتغيَّرُ نفوسُهم،

ويصيرُ عندهم شيءٌ من (التراجع)،

وملامحُ من الانقباض، والانكماش،

أو ما يُشبِهُ الضمور!

فلا تنطلقُ ألسنتهم،

ويصبحُ علمهم حبيسَ صدورهم وما تَنفثهُ أقلامهم..


ويُحضَرُ ما يُلقيهِ اللسِنُ من درسٍ أو خُطبة،

ولا يُكرَهُ على تأليفٍ أو كتابةِ مقال،

ولو كتبَ لما أبدع،

ولكان كلامهُ خيرًا من كتابته.

وهناك كثيرٌ من أهلِ العلمِ لم يؤلِّفوا،

واعتذروا بأنهم (يؤلِّفون) الرجال،

وأن التآليفَ كثيرة،

والحقُّ أنهم لم يوهَبوا ملَكةَ التأليف،

ولم يملِكوا ناصيةَ القلم.


واشتُهرَ عالمٌ من علماءِ الأمةِ في عصرنا بكتاباتهِ القيِّمة،

وذيوعِ مؤلَّفاتهِ وكثرةِ طبعاتها،

فقيلَ له: إن كتبكَ أفضلُ مخ خُطَبك،

فقال: يعني ما أعرفُ أخطب؟

وعالمٌ آخرُ إذا كتبَ فكأنه تُسمَعُ قعقعةُ حروفِ كلماتهِ وكأنها سيوفٌ تقاتل،

وإذا تكلَّمَ فلا تريدُ أن تتابعه!

وثالثٌ من العلماءَ الموقَّرين المشهورين،

إذا حاضرَ لا يكونُ صوتهُ إلا منخفضًا،

ويجيءُ كلامهُ في مرتبةٍ واحدةٍ من أولهِ إلى آخره،

ولا يتحرك،

فيُسرعُ النعاسُ إلى بعضِ الأعين..

فسبحان واهبِ النعم،

ومقدِّرِ المواهب!


وكنتُ أظنُّ أن صاحبَ القلمِ يكونُ أقلَّ كلامًا،

ولكن رأيتُ بعض الكتّابِ إذا تكلموا زادوا،

حتى تقول: ليته سكت،

وقال لي مثقفٌ أكاديمي محبّ: لا أدري متى يجدُ هذا وقتًا للكتابة؟!


وأخيرًا،

فكما أن الطلاقةَ في اللسانِ والكتابةِ موهبتان،

فإنه يقابلُهما القراءةُ والاستماعُ من الطرفِ الآخر،

فهناك من يحبِّذُ القراءةَ ويكتفي بها،

وهناك من يحبُّ الاستماعَ ولا يقتربُ من القراءةِ إلا قليلًا،

فليكنْ حظُّ اللسِنِ من أهلِ العلمِ والفكرِ هو الاستماع،

وحظُّ الكاتبِ قراءةَ آثاره.

والحمدُ لله.